الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
[التوبة: 34] وهذا في قوم أدّاهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر.وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة، فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا.فطائفة قالت: ابنوا لنا اسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم.وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا.وطائفة قالت: ابنوا لنا دُورًا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا.وليس أحد من هؤلاء إِلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غيّر الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبّد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان مَن تقدّم من الذين اقتدوا بهم؛ فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله} الآية.يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون {فَمَا رَعَوْهَا} المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا} {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أوّلًا وَرَعوها {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصَّوَامع والغِيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.الثالثة: وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرًا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية.وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صُدَيّ بن عجلان قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناسًا من بني إسرائيل ابتدعوا بِدعًا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رَعَوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.الرابعة: وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان.وقد مضى بيان هذا في سورة (الكهف) مستوفًى والحمد لله.وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّة من سراياه فقال: مَرَّ رجلٌ بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلّى عن الدنيا.قال: لو أني أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبيّ الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا.قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لَغْدَوة أو رَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدهم في الصف الأوّل خير من صلاته ستين سنة».وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدري أيّ الناس أعلم قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرًا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبيّ الأميّ الذي وعدنا عيسى يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم فتفرقوا في غِيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر وتلا {وَرَهْبَانِيَّةً} الآية أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا بن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف مَن كان قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى عليه السلام حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} الآية فمن آمن بي واتبعني وصدّقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون» يعني الذين تهوّدوا وتنصروا.وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون.وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضًا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر.والله أعلم. اهـ.
.قال الألوسي: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا} أي أرسلنا بعدهم رسولًا بعد رسول، وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما.وقيل: لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام.واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحًا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} جعلناه بعده.وحاصل المعنى أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام {وءاتيناه} بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة؛ وقرأ الحسن {أَهْلُ الإنجيل} بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري: وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي خلقنا أو صيرنا ففي قلوب في موضع المفعول الثاني وأيًا مّا كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضًا، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرئ {رآفة} على فعالة كشجاعة {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.{ابتدعوها} فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه كما قال ابن الشجري.وأبو حيان أن يكون الاسم السابق مختصًا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب.ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة {ابتدعوها} في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفًا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءًا على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة {فِى قُلُوبِ} على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضى للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلًا، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في {ابتدعوها} وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.وقرئ {رهبانية} بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب: يكون واحدًا وجمعًا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدًا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى: {ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ}.جملة مستأنفة، وقوله سبحانه: {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسًا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل.واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعًا كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى: {مَا كتبناها} إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه: {إِلاَّ ابتغاء} إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروى عن قتادة وجماعة، وهذا مروى عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين {ابتدعوها} و{وَمَا كتبناها عَلَيْهِمْ} إلخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلًا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء} الخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولًا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية مّا ابتدعوها ما كتبناها عليهم» يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصًا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في بنو تميم قتلوا زيدًا والقاتل بعضهم.وقال الضحاك وغيره: الضمير في {فَمَا رَعَوْهَا} للاخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا ءامَنُواْ مِنْهُمْ} الذين آمنوا إيمانًا صحيحًا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صحيحًا بعد رعاية رهبانيتهم {أَجْرَهُمْ} أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر: وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم} إلخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} على الذين لم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولًا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه.والبيهقي في (شعب الإيمان) من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} الذين آمنوا بي وصدقوني {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} الذين حجدوا بي وكفروا بي» وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضًا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقًا، والذي تدل عليه ظاهرًا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح (صحيح مسلم).قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه.ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص.وقال صاحب جامع الأصول: الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعًا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودًا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه. اهـ.
|